قال الله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 49-50].
أولًا: التفسير
حين أنكر الكفار البعث بعد الموت، تعجبوا قائلين: أإذا كنا عظامًا باليةً ورفاتًا متفتّتًا، أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا؟ فجاء الردّ القرآني يأمر نبيّه ﷺ أن يتحداهم: "قل كونوا حجارة أو حديدًا"؛ أي حتى لو تصورتم أنفسكم في أشدّ صور التبدل المادي، من عظام متهالكة إلى حجارة صمّاء أو حديد صلب لا حياة فيه، فاعلموا أن الله قادر على أن يعيدكم خلقًا جديدًا. فالآية جاءت في مقام القدرة المطلقة التي لا يقف أمامها حجرٌ ولا حديد، ونسفت بذلك ظنونهم بأن تحلل الأجسام يعيق البعث.
ثانيًا: الإعجاز اللغوي
يتجلى في قوله (كونوا حجارة أو حديدًا)، فقد استُخدم الفعل "كونوا" للتخيير الافتراضي في صيغة أمر تحديٍّ، أي تصوروا أنفسكم تحولتم إلى أشد المواد صلابة، والعطف بـ"أو" جاء ليُبيّن أن كلا الأمرين (الحجارة أو الحديد) في ذاتهما غاية التحدي، فليس المقصود الجمع بل ضرب الأمثلة على أقصى ما يتوهمه العقل البشري من استحالة البعث، ثم التدرج من (عظامًا ورفاتًا) إلى (حجارة) ثم (حديدًا)؛ ترتيب تصاعدي في القوة المادية، يرسخ في الذهن صورة التحدي. والإيجاز البليغ في كلمتين (حجارة أو حديدًا) طوى تصورًا ماديًّا كاملاً عن تحولات المادة العضوية إلى جمادات صمّاء، مع الإشارة الضمنية إلى أن ذلك كله لا يعجز الخالق.
ثالثًا: الإعجاز العلمي
وما كانت أمةُ العرب تعلم يومًا أن للعظام مصيرًا ماديًّا يتجاوز التحلل في التراب. لكننا اليوم، وبشهادة علوم الجيولوجيا، نعلم أن العظام المدفونة في بيئةٍ غنيةٍ بعنصر السيليكا (ثاني أكسيد السيليكون) قد تتحوّلُ بمرور الزمن إلى صخرٍ حجريٍّ صلبٍ؛ وهي ظاهرة تُعرَفُ بـ"التحجُّر" (Petrification)، حيث تستبدل المعادن شيئًا فشيئًا المواد العضوية داخل العظام، فتتغلغل في أدقّ مسامها حتى تُصبحَ في هيئتها قطعةً من الصخر. وليس هذا فحسب، بل إن العظام المدفونة في بيئاتٍ مشبعةٍ بعنصر البيريت (كبريتيد الحديد) قد تتعرضُ لنوعٍ آخرَ من التحجُّر، يُكسى فيه الهيكل العظمي بقشرةٍ معدنيةٍ لامعةٍ ذات بريقٍ أصفر يميل إلى الذهبي، مما يمنحُها مظهرًا يُشبه التماثيل المعدنية. غير أن الحقيقة العلمية تؤكد أن الجسم لا يتحوّل إلى "حديدٍ صُلبٍ" كما قد يتبادرُ إلى الذهن، بل تتغلغل مركباتُ الحديد في بنيته الصخرية، وتُعطيه صلابةً وقشرةً معدنيةً خاصة. هذه الحقائق الجيولوجية التي لم تُكتشف إلا حديثًا تدهش الباحثين حين يجدون لها صدى في آيةٍ قرآنيةٍ نزلت قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، في كلمات موجزة اختزلت مراحل التحول الفيزيائي للعظام إلى جمادات معدنية.
رابعًا: فائدة قرآنية
إنَّ القرآن لم يُقدَّم ككتاب جيولوجيا، لكنه تحدّث عن حقائق كونية بأسلوب لا يبلى مع الزمن، تُضيء للعقول مسالك التأمل، وتفتح للناظر أبواب التدبّر. فكيف لعاقل أن يُنكر هذا التوافق العجيب بين الكلمة الإلهية والسنن الكونية؟ وكيف لمنصف أن يرى أمامه هذا الإعجاز الباهر ثم يُعرض عن أنوار الوحي التي سبقَتِ العلماء في توصيف ما سيكتشفونه بعد قرون طويلة؟ أمام هذه الآيات الباهرات، وأمام هذه الحقائق الكونية التي يكتشفها الإنسان مع كل جيل جديد... كيف لا يتوقف القلب إيمانًا؟ وهل بعد هذا البيان يمكن لعاقل أن يتخيل أن البعث أمرٌ مستحيل؟ إن الله الذي خلق من تراب، قادر أن يعيد من حجر وحديد، بل من عدمٍ صرف، لأن الأمر عنده "كن فيكون". ولو تدبّر الإنسان في دورة المادة بين حياةٍ وموتٍ وتحللٍ وتحجّر، لأدرك أن إعادة الخلق أهون عند الله من الخلق الأول. فالقرآن لم يُخاطب عصرًا بعينه، بل نزل خطابًا خالدًا يتجلّى في كل عصر بوجهٍ من وجوه الإعجاز، حتى تشهد العقول أن هذا كلام الله.
خامسًا: المصادر
١- تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن. ٢- تفسير ابن عاشور، التحرير والتنوير. ٣- تفسير الرازي، مفاتيح الغيب. ٤- موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي. ٥- مقالات علمية في موقع الجمعية الجيولوجية الأمريكية (GSA) حول ظاهرة التحجر Petrification.
-------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى